Kamis, 19 November 2015

زيارة رسول الله صلى الله عليه و سلم و شدّ الرحال اليها

قال القاضي عياض في كـتابه " الشفا بتعريف حقوق المصطفى" : زيارة قبره صلى الله عليه و سلم من سنن المسلمين مجمع عليها و فضيلة مرغب فيها. ثم روى بسنده المتصل عن ابن عمر رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "من زارني في المدينة محتسبا كان في جواري و كـنت شفيعا له يوم القيامة". و في حديث أخر : "من زارني بعد مـماتي فكأنما زارني في حياتي".

و فى الفصل الذي عقده في تخصيصه صلى الله عليه و سلم بتـبليغ صلاة من صلّى عليه او سلّم من الأنام. روي عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "من صلى عليّ عند قبري سمعـته, و من صلّى نائـبا بلّغته". و عن ابن مسعود قال : "إنّ لله ملائكـة سياحين يـبلّغوني عن أمتي السلام" . و نحوه عن أبي هريرة و عن ابن عمر رضي الله عنهم : "أن احدا لا يصلّي  عليّ الا عرضت صلاته علي حين يفرغ منها".
فأللهم صلّ على مولانا و شفيعنا رسول الله صلاة ترضيك و ترضيه و ترضى بها عنا يا ربّ العالمين.
و لكـن هناك  شرذمة من الناس – و هؤلاء هم الذين حكـينا عنهم منع زيارة القبور -  منعوا زيارته صلى الله عليه و سلم و صنّـفوا في هذه المسألة مصنّفات و أصدروا فتاوي تفهم اهل الإسلام, أن شدّ الرحال الى زيارته صلى الله عليه و سلم لا يجوز. أما لو شدّ المؤمن رحله الى زيارة مسجده صلى الله عليه و سلم فيه فذلك جائز.
 و دليلهم الوحيد الذي جعلوه في كلّ مصنفاتهم و فتاويهم قوله صلى الله عليه و سلم :" لا تشدّ الرحال الا إلى ثلاثة مساجد. المسجد الحرام و مسجدي هذا و المسجد الأقصى". (رواه الشيخان البخاري و مسلم و غيرهما).
قال الإمام الغزالي في"  الإحياء"  تحت عنوان " فضيلة المدينة المنوّرة على سائر البلاد" : و قد ذهب بعض العلماء الى الإستدلال بهذا الحديث (: لا تشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد) فى المنع من الرحلة لزيارة المشاهد و قبور العلماء و الصلحاء. و ما تبـين لي أن الأمر كـذلك, بل الزيارة مأمور بها. قال صلى الله عليه و سلم : " كـنت نهيتكم عن زيارة القبور, فزوروها, و لا تقولوا هُجرا".
و الحديث إنما ورد في "المساجد" و ليس في معناها " المشاهد". لأن  المساجد بعد المساجد الثلاثة متماثلة, و لا بلد الا و فيه مسجد, فلا معنى للرحلة لمسجد أخر. و أما المشاهد فلا تتساوى, بل بركة زيارتها على قدر درحاتهم عند الله عزّ و جلّ. ثم قال : ليت شعري هل يمنع هذا القائل من شد الرحال الى قبور الأنـبياء عليهم السلام مثل إبراهيم.
فالمنع من ذلك في غاية الإحالة. فإذا جوّز ذلك فقبور الأولياء و العلماء و الصلحاء في معناها, فلا يبعد ان يكون ذلك من أغراض الرحلة, كما أن  زيارة العلماء في الحياة من المقاصد.
و إني أعجب ثم أعجب  ان  يفهم ذو عقل منع زيارته صلى الله عليه و سلم من هذا الحديث  مع فهم جواز شدّ الرحال الى المدينة المنوّرة بأنواره صلى الله عليه و سلم لأجل  الصلاة في مسجده صلى الله عليه و سلم؛ و إنما عحبت ثم عجبت من ذلك الفهم, لأن المدينة المنورة بأنواره صلى الله عليه و سلم ما كان لها ايّ قيمة بين البلاد قبل هجرته صلى الله عليه و سلم إليها.
و هذا المسجد الكريم مسجده صلى الله عليه و سلم, لو لا إضافته إليه عليه الصلاة و السلام لكان ككل المساجد, لا فضل له على أيّ مسجد من مساجد الدنيا. فالمسجد إنما عظم هذه العظمة و صارت اليلاة فيه بألف صلاة في سواه من المساجد, لأنه المسجد الذي اختاره صلى الله عليه و سلم و بناه, و الذي كان يشرّفه بالصلاة فيه و الذي كانت تهمى فيه الرحمات و البركات لخطوته بحلول شخصه الكريم فيه صلى الله عليه و سلم.
و إذا كان الأمر هكذ, فهل من المعقول  ان يقال : إنّ هذا المسجد له بركات   تعود الى المسافر اليه, فلهذا يجوز ان تشدّ الرحال اليه. و أما الرسول الذي ما عظم هذا المسجد الا بنسبته اليه فلا بركة فيه تعود الى زائريه. و إذن لا يجوز ان تشدّ الرحال الى زيارته. إنّ هذا انـما يقوله : المجانـين الذين لا يعون  ما يقولون, او يقوله : عدّوا الإسلام و رسول الإسلام.
و أما المؤمن الذي حظّ من العقل  فلا يـمكن ان يخطر بباله : هذا المعنى السخيف.
و الحديث الذي يستـند اليه اولـئك الذين يريدون ان يجولوا بيـنه صلى الله عليه و سلم و بـين أمته في نـاحية, و ما يذهبون اليه في ناحية أخرى, فإنـه يتكلّم عن المساجد خاصّة.
يقول للناس : أنتم عقلاء, يجب  ان تصان أعمالكم عن العبث الذي لا فائدة فيه. فأوصيكم  ان لا تسافروا و تتحمّلوا متاعب السفر و مشاقّه من أجل ان تصلوا بمسجد من مساجد الدنيا فاهمين أنّ له فضلا على غيره. لا تفعلوا ذلك, فإنكم تتعبون في سفركم بلا فائدة تعود عليكم, لأنّ المساجد كلّها في مستوى واحد, لا فضل لبعضها على بعض. لكن لا تفهموا أنّ ذلك على عمومه, بل فى الدنـيا مساجد ثلاثة لها مـيزة على غيرها من المساجد, هي المسجد الحرام بمكة و المسجد النبوي بالمدينة المنوّرة و المسجد الأقصى بالشام. هذه المساجد وحدها لو شددتم الرحال اليها لا يـضيّع تعبكم, بل يعود عليكم من الثواب بمضاعفة ثواب الصلاة فيها ما يوازي تعبكم و زيادة.
و إنما امتازت هذه المساجد الثلاثة لأنّ المسجد الحرام أمر بـبناه, فـبناه سيدنا إبراهيم خليل الرحمـن صلى  الله عليه و سلم, و كان يساعد في بنائه سيدنا إسماعيل عليه الصلاة و السلام, ثم هو بـجوار بيت الله الحرام قبلة العالمين. فلذلك البناء و هذا الجوار العالي نال من  الشرف ما جعل الصلاة فيه بمائة ألف صلاة  في سواه  من المساجد.
و أما مسجده صلى الله عليه و سلم, فعظمته لما قدّمـنا, ثم هو بجوار بـيته صلى الله عليه و سلم. و لا يشكّ مؤمن في ان بيته صيى الله عليه و سلم مهما علا شرفه و عظم قدره لا يصل ابدا الى شرف بيت ربّ العالمين. لهذا كانت الصلاة في مسجده صلى الله عليه و سلم بألف صلاة في سواه, ليشير التفاوت في عظم الثواب الى التفاوت في شرف الجوار.
 وأما المسجد الأقصى, فبناه سيدنا يعقوب  صلى الله عليه و سلم بعد أن بـنى المسجد الحرام جدّه سيدنا إبراهيم صلى الله عليه و سلم بأربعين سنة, كما جاء في الحديث. ثم كان هذا المسجد مصلّى أنـبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة و السلام, و كان بجوار بيوتهم و روضاتهم التي هم بعد انتـقالهم الى الرفيق الأعلى عليهم الصلاة و السلام. و لا يخفى أن جوار الأنـبياء, و ان كان رفيع القدر عظيما, لا يصل الى درجة كرم جواره صلى الله عليه و سلم. لهذا كانت الصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة في سواه من المساجد, كما ورد هذا التحديد فى الكلّ بحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان.
هذا ما يستطيع الإنسان ان يفهمه من السرّ في التفاوت بـين  هذه المساجد الثلاثة و بـين غيرها, و في تفاوت الثواب بـينهما.
و لنعد الى الكلام مع المانعين زيارته صلى الله عليه و سلم. فنقول : لو فهمنا أنّ النهي عن شدّ الرحال فى الحديث المذكور عام في كلّ سفر, الا السفر الى هذه المساجد الثلاثة, لـلزم :
(1) أن لا يجوز لنا السفر فى الأرض للإعتبار و العظة, و قد أمرنا ربّـنا عزّ و جلّ بهذا السير في كتابه  و حرّضنا في غير آية من كتابه.
(2) و ان لا نسافر لصلة  ارحامنا إذا كانوا بجهات بعيدة, و قد أمرنا ربّـنا بهذه الصلة و شدّد علينا فيها و وعد من يقوم بها ان يصله و توعّد من أخلّ بها ان يقطعه.
(3) و ان لا نسافر للجهاد و لتبليغ الشريعة او القضاء بـين الناس بالعدل.
(4) و ان لا يجوز لنا السفر للتجارة و إلى ان و الى ما يهمّهم من شؤون الدنـيا في أيّ ناحية من نواحي الأرض.
(5) و ان لا يـشدّ الرحال اليه صلى الله عليه و سلم في حياتـه, فإنّ الوفود كانت تفيد اليه صلى الله عليه و سلم من أنحاء الأرض مسافرين لم يبعثهم على ذلك الا حبّ لقائه صلى الله عليه و سلم و زيارته و التـبرك بالوجود في حضرته الشريفة,  و كان صلى الله عليه و سلم يـرى هذا و يقرّه, بل  و يحرّض عليه بما كان يـثيب به تلك الوفود من الجوائز التي كان يـمنحهم بها, و هو الآن في روضته الشريفة مثـله و هو حيّ تماما. فزيارته الآن لا تختلف ابدا عن زيارته قبل وفاته صلى الله عليه و سلم. و نـبّه هو صلى الله عليه و سلم على ذلك في قوله : " من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي" (رواه الدارقطني في سنـنه و البيهقي و ابن عساكر و الطبراني في معجمه الكبـير و الأوسط  ).
(6) و لزم كذلك ان يكون علماء الإسلام من اول هذه الأمة الى اليوم في خطإ عظيم حيث انهم يعقدون في كـتبهم الديـنية الأبواب و الفصول يذكرون فيها زيارته صلى الله عليه و سلم و ما يتعلّق بها من ترغيب فيها و من آداب ينـبغي ان تراعي فى القيام بها.
و إنّي …… بـما احمل من لقب "كـياهي" آمر و أشدّد فى الأمر كلّ مؤمن ان يشدّ رحله الى زيارته صلى الله عليه و سلم. و له على ذلك ما قاله هو صلى الله عليه و سلم : " من زار قبري  وجبت له شفاعتي ", ( رواه الدار قطني و البيهقي و غيرهما ). و قال : "من جاءني زائرا لا يحمله حاجةٌ إلا زيارتي, كان حقا ان أكون له شفيعا يوم القيامة" ( رواه الطبراني في معجمه الكـبـير و الدار قطني في اماليه و ابن المقري في معجمه و غيرهم.). و قال : "من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة" (رواه العقيلي  و غيره).  و هو شيئ لا يسمعه مؤمن و يهدأ له بال حتّى يتشرّف بالمثول بـين يديه صلى الله عليه و سلم.
و هل بي جنون حتّى أصدر أمري للمؤمن ان لا يزوروا رسولهم و وليّ نعمتهم الذي له في عنق كل مؤمن منة محال ان يقوم بشكرها؟ و من يستطع ان يكافئ من أخرجه من نار ابدية الى نعيم ابديّ؟
أنّ من يأمر الناس ان لا يزوروا سيد الوجود و صفوة الخلق لا يدري ماذا يفعل انّه يحول بـين عباد الله و بـين  رحمة الله, فإنه صلى الله عليه و سلم رحمة الله للعالمين. فليعرف  ذلك , أولـئك المانعون ليعلموا في أيّ موقف هم.
و إني أحبّ ان يعلم القارئ المؤمن انّ الإجماع على طلب زيارته صلى الله عليه و سلم طلبا أكـيدا لم يخالف في ذلك. لا عالم و لا جاهل, و لا اسود و لا ابيض, و لا رجل  و لا امرأة. بل صرّح بعض هداة الأمة : "أن هذه الزيارة واجبة فرارا من الجفاء الذي رمى به صلى الله عليه و سلم من لم يزره, فإنـه قال عليه الصلاة و السلام فيما رواه ابن نـجّار : " من لم يزرني فقد جفاني". و قال :" ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني, فليس له عذر". و هذا شيئ يخيف أهل الإيـمان.
نعم, لم ير الناس و لم يسمعوا من عهده صلى الله عليه و سلم لهذا العهد الذي نـحن فيه الآن احدا يخالف في طلب  هذه الزيارة  الكريـمة, إلاّ  هذا الرجل  ( ابن تـيمية ) و من اغـترّ به من عصره لليوم, و هم افراد يعدّون بالأصابع بـين  أمة بأسرها تعدّ بـمـئات الملايـين عندهم هذه الزيارة بعد الحجّ الذي هو احد أركان الإسلام.
و لو كان لـهؤلاء المانعين عقل و رويّة لسكـتواعن الجهر بهذه الشنيعة, و هم يرون عباد الله تعالى تعدّ بالآلاف و الملايـين تبعثهم الأشواق المقلقة اليه صلى الله عليه و سلم, فيـتركون أوطانهم و أحبابهم  و أموالهم يتابعون المسير ليلا و نهارا, يبتهلون إلى ربّهم ان يطيل آجالهم حتى يصلوا اليه صلى الله عليه و سلم.  فإذا وصلوا فلا تسأل  عن مبلغ ما يقوم بهم من مسرّات ثم مسرات, فإن ذلك شيئ انـما يعلمه العليم الخبـير. و من قرأ عبارات العشّاق لذلك المقام الكريم عرف : أن المؤمنـين في عالم, و هؤلاء المانعـين في عالم أخر.
رزقنا الله زيارته صلى الله عليه و سلم مرّات ثم مرات في عفو و عافية. أللهم أمـين.